إن «مذبحة أبريل 1990» التي قتل فيها ثمان وعشرون ضابطاً، وضابط صف بدمٍ بارد، وتعمد مع سبق الإصرار، هي جريمة بشعة، متكاملة الأبعاد. وهي أبشع جريمة سياسية وقعت في كل تاريخ السودان السياسي طوال القرن العشرين. لا بد إذن من تقصي المسئولية الجنائية في هذه المذبحة، والوصول إلى حقائق دامغة عبر تحقيق قضائي يستند إلى كل الشهود، والتحري مع كل المشاركين والشهود الأحياء الذين حضروا تلك المأساة، أو عاصروا أحداثها بصورة أو بأخرى. أورد د. أمين مكي مدني تلك الجريمة البشعة ضمن الجرائم السودانية التي وقعت خلال حكم نظام الجبهة القومية الإسلامية، وتقع تحت طائلة القانون الإنساني الدولي، وبالتالي تستوجب المسائلة القانونية، ولن تسقط بالتقادم:
«محاكمة وإعدام ثمانية وعشرين ضابطاً»
في إحدى أمسيات شهر أبريل 1990 وفي عشية عيد الفطر المبارك، قام النظام باعتقال عدد من الضباط العاملين وبعض المتقاعدين من القوات المسلحة، ووجهت لهم تهمة التآمر للقيام بانقلاب عسكري للإطاحة بالنظام. اعتقل بعضهم من منازلهم وبعضهم كان رهن الاعتقال التحفظي، وتم نقلهم جميعا إلى السجن العسكري بمدينة أمدرمان. تكتم النظام على المعتقلين ومكان احتجازهم وطبيعة التهم الموجهة إليهم، واخضعوا لتحقيق عاجل قام به ضباط في القوات المسلحة، وقدموا إلى محاكمة عسكرية ميدانية لم تتح لهم فيها فرصة الدفاع عن أنفسهم أو توكيل محامين للقيام بذلك، وتسربت أنباء عن تعرضهم لأبشع أنواع التعذيب لانتزاع اعترافاتهم. ويروى أن المحاكمة التي ترأسها ضابط يدعى «الخنجر» لم تستمر سوى فترة لم تتجاوز ساعة واحدة. فوجئ الجمهور بنبأ عبر أجهزة الأعلام خلص في جملة واحدة أن الضباط المعنيين قد اتهموا بتدبير محاولة لقلب نظام الحكم، وقدموا لمحاكمة عسكرية أدانتهم، وحكمت على ثمانية وعشرين منهم بالإعدام، وأن السلطة المؤيدة، رئيس مجلس قيادة الثورة، قد صدق على الأحكام، وأن الحكم قد نفذ بحقهم رميا بالرصاص، وتم دفن الجثث!
أعلنت التهم والمحاكمة والأحكام وتأييدها وتنفيذها هكذا، في خبر واحد. وقع الخبر كالصاعقة على جميع أبناء الشعب السوداني، ناهيــك عن أسر وزوجات وأبناء أولئك الضباط. وظـل النظام حتى اليوم يرفض أن يوضح لذوي الضحايا حتى أماكن دفن جثثهم، ويستمر في قمع مواكب أسـر الشهداء حين خروجهم في كل ذكرى سنوية في مواكب تطالب بمعرفة أماكن قبور ذويهم. ويستمر النظام في تعريض تلك الأسر لبطش قوات الأمن كل عام، وتفريقهم بالقوة وتقديمهم للمحاكمة أمام محاكم النظام العام وتعريضهم لعقوبات الجلد والغرامة.(1)
من الثابت أن المسئولية كاملة تقع على عاتق الجبهة الإسلامية القومية الحاكمة في السودان.. تقع على قياداتها العليا في المكتب التنفيذي ومجلس الشورى والمجلس الأربعيني.. وعلى أجهزة أمنها التي نفذت تلك الجريمة الشنعاء..
نحن هنا بصدد وضع لائحة اتهام ابتدائية سنورد فيها الأسماء والوقائع، سنتدرج حسب تسلسل الأحداث، وما وضح من مسئوليات مباشرة وغير مباشرة في أحداث «مذبحة أبريل».. هذه اللائحة الابتدائية قد تكون أقل دقة مما سيصل له أي تحقيق قضائي مستقبلاً.. قطعاً أن المسئولية المباشرة في كل ما جرى تقع على عاتق قيادة الجبهة الإسلامية التي أصدرت الأمر بتصفية المتهمين منذ بداية فشل عملية أبريل.. اتخذت ذلك القرار الدموي بمفهوم تحقيق عنصر الردع العنيف والصدمة القصوى لوقف أي محاولات مستقبلية تستهدف استقرار واستمرار النظام..
لائحة الاتهام الابتدائية
يقف الدكتور حسن عبدالله الترابي على رأس قائمة الاتهام. في العام 1990 كان هو السيد والشيخ الآمر والمسيطر تماما على كل شاردة وواردة في قرارات النظام الحاكم، وقطعاً قد أصدر الأمر السيادي بتنفيذ تلك المذبحة النكراء.. وإن لم يفعل، فقد سكت بعد حدوثها.
يأتي في تسلسل قائمة الادعاء علي عثمان محمد طه نائب رئيس الجبهة الإسلامية القومية، والمسئول عن القوات المسلحة منذ قبل انقلاب 30 يونيو 1989، وكان هو المسئول التنفيذي عن كل خطط النظام، وتطهير القوات المسلحة من كل العناصر المناوئة، وتطعيمها بكوادر التنظيم المتيسرة «تأميناً للثورة» والمشروع الحضاري المزعوم..
أما رئيس النظام، الفريق عمر حسن أحمد البشير، فهو كقائد عام وقائد أعلى للقوات المسلحة تقع عليه مسئولية تحقيق العدالة والالتزام بالقانون العسكري واللوائح في كل قضايا القوات المسلحة. وهذا ما لم يحدث طوال مراحل إجراءات التحقيق مع ضباط «حركة أبريل» وحتى تنفيذ أحكام الإعدام، ومن غرائب الأمور أن القائد العام للقوات المسلحة قام بالهروب إلى العيلفون عند بدء التحركات ليختبئ في منزل عضو الجبهة الإسلامية «الطيب النص».. ترك كل مسئولياته القيادية ليديرها ضباط أصاغر، ولم يعد إلا في اليوم التالي.. بعد فشل المحاولة!! كما أنه لم يتدخل بأي شكل كقائد عام وقائد أعلى للقوات المسلحة.. لم تتدخل قيادة القوات المسلحة بدءًا برئيس هيئة الأركان ونوابه.. لم يكن هنالك أي دور لفرع القضاء العسكري المناط به التحقيق القضائي وصياغة لوائح الاتهام في أي جريمة تقع داخل القوات المسلحة.. أما الأدهى والأمر، فهو أن رئيس النظام لم يكن يعلم عن تنفيذ أحكام الإعدام حتى صباح اليوم التالي، حين دلف إليه حوالي الساعة التاسعة صباحاً من يوم الثلاثاء 24 أبريل 1990 العقيد عبد الرحيم محمد حسين والرائد إبراهيم شمس الدين في مكتبه بالقيادة العامة، وهما يحملان نسخة من قرارات الإعدام ليوقع عليها بصفته رأساً للدولة (كما ينص القانون العسكري)، ويقول أحد الشهود أن الرائد إبراهيم شمس الدين قال للفريق عمر البشير حينما تردد في التوقيع بالحرف الواحد: «يا سيادتك وقِّعْ.. الناس ديل نِحْنا أعدمناهم خلاص».. فوضع الفريق ـ الذي يُحكَمُ ولا يَحكُم ـ يديه على رأسه للحظات، ثم تناول القلم وهو مطأطئ الرأس، وقام بمهر قرارات الإعدام التي تم تنفيذها بالفعل قبل ست ساعات مضت على أقل تقدير!!
هنالك مسئوليات مباشرة تقع على عاتق كل قيادات الجبهة الإسلامية في اتخاذ القرار وتنفيذ «مذبحة أبريل».. يقف في قائمة الاتهام العديد منهم.. لكن على رأسهم ولا شك، يأتي الدكتور نافع على نافع، رئيس أجهزة الأمن الذي باشرت وحداته التنفيذية الاعتقالات الابتدائية، والتحقيق مع المعتقلين وتعذيبهم.. وكانت كل الكوادر التي قامت بفرض الحراسات، وتجهيز ساحة الإعدام، بما في ذلك وحدة إطلاق النار، الـ“Firing Squad” التي يقودها الرائد محمد الحاج، تتبع لأمرته مباشرة.
للدلالة على تورط كل قيادات الجبهة الإسلامية في جريمة ومذبحة«أبريل/رمضان»، نورد حادثة موثقة لها شهود.. فقد اتصل مساء ذلك اليوم أحد قيادات جهاز الأمن هاتفياً بالسيد أحمد سليمان المحامي في منزله بحضور شاهد تلك الواقعة.. لم يدرِ الشاهد هوية المتحدث على الطرف الآخر من الخط، لكنه عرف أن الحديث يدور عن محاولة الانقلاب العسكري التي جرت صباح ذلك اليوم (الاثنين 23 أبريل).. سمع الشاهد أحمد سليمان وهو يقول بوضوح تام لمحدثه قبل أن ينهي المكالمة: «أحسَنْ ليكُم تَنْتَهُوا مِنَّهُمْ كُلَّهُم الليلة دِي.. لو إنتَظَرْتُوا بِيهُم الصباح، تَجِيكُم الأجاويد والوَاسطات من جُوه وبَرَّه!!»
تأتي في تسلسل الاتهام «المجموعة المتنفذة»، أو القابضة على كل الأمور في ذلك اليوم البهيم، وهم:
العقيد عبدالرحيم محمد حسين، رئيس المجلس الأربعيني لضباط وكوادر الجبهة الإسلامية، وعضو مجلس قيادة ثورة «الإنقاذ» الوطني.
العقيد بكري حسن صالح، عضو مجلس قيادة ثورة «الإنقاذ» الوطني.
الرائد إبراهيم شمس الدين، عضو المجلس الأربعيني، وعضو مجلس قيادة ثورة «الإنقاذ» الوطني.
العقيد الهادي عبدالله، عضو المجلس الأربعيني والمسئول الأول عن أمن القوات المسلحة.. وكان يلقب آنذاك بـ«القائد العام الحقيقي» للقوات المسلحة.
هنالك أيضاً كادر المحكمتين الصوريتين اللتان انعقدتا في السجن الحربي في كرري وهم:
العقيد محمد الخنجر، عضو المجلس الأربعيني ورئيس المحكمة الصورية الأولى.
العقيد سيد فضل كنّه، عضو المجلس الأربعيني ورئيس المحكمة الصورية الثانية.
الرائد صديق الفضل،عضو المجلس الأربعيني، وعضو المحكمة الصورية الأولى.
المقدم سيف الدين الباقر، عضو المجلس الأربعيني وعضو المحكمة الصورية الثانية.
الرائد الجنيد حسن الأحمر، عضو المجلس الأربعيني وعضو المحكمة الصورية الثانية.
العقيد محمد علي عبدالرحمن، ضابط الاستخبارات العسكرية ممثل الاتهام في الصورية الثانية.
أما مجموعة التنفيذ التي قامت بإطلاق النار، فقد كانت تحت قيادة الرائد محمد الحاج من أمن النظام، ومعه مجموعة مكونة من عشر كوادر، تم اختيارهم بعناية، ويتبعون جميعاً لأمن الجبهة الإسلامية، وكانوا يعملون في ذلك الوقت في جهاز أمن الدولة تحت القيادة المباشرة للدكتور نافع على نافع.
تضم قائمة الاتهام أيضاً أولئك الضباط التابعين لإدارة الاستخبارات العسكرية الذين قاموا بالتحقيق الأولي مع المعتقلين، وتباروا في التجريم وخرق كل الأعراف والأخلاق العسكرية تأكيداً لولائهم المطلق لثورة الإنقاذ، وهم:
اللواء محمد مصطفى الدابي، مدير إدارة الاستخبارات العسكرية.
العميد كمال علي مختار، نائب مدير إدارة الاستخبارات العسكرية.
العميد حسن أحمد ضحوي، جهاز الأمن العام.
العميد عبد الرزاق الفضل، إدارة الاستخبارات العسكرية.
العميد محمد عبده إلياس، إدارة الاستخبارات العسكرية.
وقبل أن نأتي إلى ذيل قائمة الاتهام، هنالك مسئولية جنائية كاملة توجه إلى العقيد محمد الأمين خليفة، وهو ذلك الجرم الشنيع الذي ارتكبه ضد معتقل أعزل هو اللواء طيار محمد عثمان حامد كرار وذلك حينما طعنه بالسونكي في جانبه الأيمن في التاسعة من صباح يوم الاثنين 23 أبريل، عندما رفض اللواء كرار استسلام المدرعات وطالب اللواء الكدرو بالاستمرار في المقاومة.
وتندرج أيضاً في قائمة الاتهام قيادة القوات المسلحة في العام 1990، وخلال فترة «مذبحة أبريل»، أولئك القادة الصوريين الذين سمحوا بذبح القوات المسلحة قبل ذبح ضباط وضباط صف «حركة أبريل» البواسل، ونذكر منهم على سبيل المثال وليس الحصر:
الفريق إسحاق إبراهيم عمر، رئيس هيئة الأركان.
الفريق حسان عبدالرحمن، نائب رئيس هيئة الأركان للعمليات.
الفريق إبراهيم سليمان، نائب رئيس هيئة الأركان للإمداد.
الفريق حسن محمد حسن علام، نائب رئيس هيئة الأركان للإدارة.
اللواء سيد أحمد حمد سراج، رئيس فرع العمليات الحربية.
اللواء محمد عبدالله عويضه، الناطق الرسمي للقوات المسلحة.
اللواء عبدالمنعم حسين، مدير فرع القضاء العسكري.
لم يباشر هؤلاء القادة ـ رفيعي المستوي ـ مسئولياتهم القيادية في حفظ حقوق ضباطهم وجنودهم وفق اللوائح والقوانين العسكرية، والذين هم بحكم مناصبهم مسئولين عن تنفيذها.. تركوا كل الأمر ليدار خارج نطاق القوات المسلحة، ولأول مرة في تاريخها يتم إجراء محاكمات قضائية بدون أي تدخل من القيادة العامة، وبدون أي إشراف قانوني من فرع القضاء العسكري.. تحقيق ومحاكمات بدون صدور أمر تشكيل قانوني من أي نوع، وعلى أي مستوى.. قرارات قضائية بتنفيذ أحكام إعدام لعسكريين دون توقيع تلك القرارات من فرع شئون الضباط، أو من نائب هيئة الأركان للإدارة ورئيس هيئة الأركان، وأخيراً حتى دون توقيع تلك القرارات المصيرية من القائد الأعلى للقوات المسلحة الذي هو رأس الدولة في نفس الوقت.. والأدهى والأمر أن تتم كل تلك الإجراءات خارج نطاق القوات المسلحة، ودون علمها.. وأن تقوم على تنفيذها ميليشيات أمن الجبهة الإسلامية!!؟؟
ذكر لي العقيد المتقاعد عبدالمنعم سليمان، المقيم حالياً في دولة الإمارات العربية المتحدة، أنه في مساء يوم الثلاثاء 24 أبريل 1990، وبعد أن أذاعت هيئة الإذاعة البريطانية خبر الإعدامات، ذكر أنه اتصل بالفريق حسان ـ وهو على صلة قرابة عائلية به ـ ليعرف منه ما حدث.. فقال له الفريق حسان بالحرف الواحد: «والله ما كان في أي طريقة لوقف ما حدث»!!
لن ينسى تاريخ القوات المسلحة السودانية ما كان يقوله الفريق سيد أحمد حمد سراج صبيحة يوم الثلاثاء 24 أبريل في مكتبه وقد تجمع حوله الضباط بالقيادة العامة بعد تسرب خبر الإعدامات التي تمت في الفجر، والتي سمعها هو ـ رئيس هيئة العمليات بالقوات المسلحة ـ كما سمع بها الآخرون، قال: «أَيوه أعدمناهُم.. وحَنَعدِمْ أيِ واحد يفكر في التحرك ضد الثورة!».. ونجزم بأن الفريق الهُمام لم يكن يعلم شيئاً.. كل صلاحياته هو والآخرين كقيادة عامة للقوات المسلحة كانت قد سُلِبَت منهم.. لكنه كان يركب موجة التباري في إظهار الولاء للنظام «تأميناً للمواقع الوظيفية»، ولم يكن المسكين يدري أنه سيذهب إلى الشارع ـ أسوة برفاقه المداهنين ـ بعد أشهر قليلة، لانتهاء «عمره الافتراضي» في خدمة النظام.
في آخر تلك القائمة يأتي الادعاء الأخلاقي ضد الذين تفاوضوا مع اللواء حسين عبد القادر الكدرو، الذي كان ممسكاً بكل الأمور في قيادة المدرعات لدفعه إلى الاستسلام.. هنالك الفريق عثمان بليه ـ ابن عم اللواء الكدرو ـ الذي طلب منه حقن الدماء، وقدّم له الالتزام تلو الآخر بإجراء تحقيق عادل ورفع المظالم.. وهناك الفريق عبدالرحمن محمد حسن سوار الذهب، رئيس الدولة خلال الفترة الانتقالية 1985/86، وأمين أمناء منظمة الدعوة الإسلامية، الذي شارك في مفاوضة اللواء الكدرو بالاستسلام.. قدّم له كل ما يمكن تقديمه من وعود، ولم يكن يملك ضمان تنفيذ أي منها.. فعلوا ذلك ونجحوا فيه.. واستسلمت المدرعات.. ليذبح اللواء الكدرو وكل ضباطه المتهمين بالمشاركة في المحاولة الانقلابية بعد ساعات قلائل على سفح «جبل سركاب» غرب مدينة أمدرمان.
وأخيراً، هنالك حدث جدير بالتسجيل والتوثيق، وهو الحالة التي كان عليها المقدم بشير الطيب حينما أُعدم، فكل القوانين العسكرية على نطاق العالم لا تجيز تنفيذ حكم الإعدام في أي مصاب يحتاج إلى علاج، خاصة إذا كانت الإصابة من جرح ناتج عن معركة أو اشتباك مسلح.. برغم ذلك أُعدِمَ المقدم بشير وهو مصاب بطلق ناري إصابة بالغة، ونورد أدناه ما كُتب في إحدى المجلات العربية: «أصيب المقدم بشير الطيب بجراح بالغة بعد أن أطلق عليه النار سائق الرائد إبراهيم شمس الدين أمام بوابة القيادة العامة. رغم ذلك، فقد تُرِكَ ينزف ولم يرسل إلى المستشفى العسكري لعلاجه. وقد اقتيد إلى ساحة الإعدام وهو شبه ميت من النزيف الحاد.»(1)
أكد هذه الحادثة المأساوية والبعيدة كل البعد عن الأخلاق العسكرية ـ ناهيك عن العرف الإنساني ـ رئيس النظام الفريق عمر البشير حينما أجاب على سؤال في الحوار المشار إليه سابقاً، قال: «الانقلابيون استعملوا أسلوب الخداع، والمشاركون من سلاح المدرعات خمس ضباط فقط، ولم يستطيعوا مسك كل المدرعات. الانقلابيون لم يُنَوِّروا الجنود بصورة واضحة، وحتى المدرعة التي استخدمها المقدم بشير الطيب ووصل بها إلى القيادة العامة، قال الانقلابيون للجنود الذين قادوها أن لديهم أوامر من القيادة لاستعمالها في الخدمات، والدخول بها إلى القيادة العامة.. وهنالك التقوا بالرائد إبراهيم شمس الدين عضو مجلس قيادة الثورة، وفي هذه اللحظة نزل المقدم بشير الطيب من المدرعة واشتبك بالأيدي مع الرائد إبراهيم شمس الدين، إلى أن أطلق الجنود الذين جاءوا مع الرائد شمس الدين النار على المقدم بشير الطيب، هنا علم الضباط أنها حركة ضد ثورة الإنقاذ، واقتحم الجنود والضباط مواقع الانقلابيين واعتقلوهم.»
حادثة بلا نهايــــــــة
أخيراً.. وليس آخر: ما حدث في فجر 24 أبريل 1990 من الجبهة الإسلامية الحاكمة في السودان جريمة بكل المقاييس الجنائية والسياسية والأخلاقية، وهى تقع ضن الجرائم المنصوص عنها في قائمة الجرائم ضد الإنسانية.. جريمة ستبقى في ذاكرة التاريخ السياسي العربي والإسلامي والعالمي، وبداهة فقد حفرت جذورها وأفرعها عميقاً في التاريخ السياسي السوداني.
جاءت الإدانة «لمذبحة أبريل 90» من كل منحى.. وفُرِضَت العزلة والنبذ لمشروع الدكتاتورية في السودان منذ بدايته.. وكانت هي الضربة الأولى في هزيمة المشروع الحضاري المزعوم.. من المؤكد أن دماء أولئك الشهداء لن تذهب هدراً طالما أن المذبحة التي حدثت هي جريمة أجمعت عليها الأحكام السماوية والقوانين الوضعية.. ولذا فلا مناص من القصاص في جريمة لا تسقط بالتقادم.
المصدر: من كتاب الجيش السوداني والسياسة
العميد عصام الدين ميرغني (أبوغســان)
2002م