٣٠ عاما لم يهتز خلالها عزم عائلات الضباط الذين أعدمهم الرئيس السابق عمر البشير في أبريل/نيسان 1990 عقب محاولة انقلابية فاشلة عليه. تعرض أفراد هذه العائلات للاعتقال والطرد من وظائفهم، مثلوا أمام المحاكم وبعضهم هاجر من السودان، لكن تصميمهم ظل قائما للعثور على مكان دفن الضباط الـ٢٨.
الأسبوع الماضي، أعلن النائب العام العثور على مقبرة جماعية تضمّ رفات الضباط في منطقة صحراوية غرب أم درمان، المدينة التوأم للعاصمة الخرطوم.
وحاول ضباط في يوم 23 نيسان/أبريل 1990 الإطاحة بنظام البشير بعد أقلّ من عام على وصوله إلى السلطة عبر انقلاب.
وتروي المحامية فتحية كمبال (61 عاما)، وهي أرملة مقدم سلاح المدرعات بشير أبو ديك الذي كان في الـ٣٧ من عمره، "بالنسبة لنا، كانت مجزرة. قُتل (زوجي) خارج نطاق القانون وظلت مطالبتنا بالعثور على مقابرهم قائمة".
وتضيف كمبال، وهي أم لـ٣ كانوا أطفالا عندما قتل والدهم، "مشاعرنا الآن مختلطة، نشعر بالارتياح للعثور على قبورهم، ولكننا نتذكر الطريقة التي قتلوا بها. إنها جريمة ويجب محاكمة مرتكبيها، وردّ الاعتبار للشهداء بإعادة دفن رفاتهم وتشييعهم في جنازة عسكرية".
حركة لم تتوقف
في منزلها بجنوب العاصمة، تحمل كمبال صورة لزوجها بالزي العسكري، بينما كان في دورة تدريبية في الولايات المتحدة، وتقول "آخر مرة رأيته كان يوم ٢٧ رمضان. غادرنا منزل صديقه بعد أن تناولنا الإفطار، ولم يذهب بنا إلى المنزل، بل أوصلنا إلى منزل أبي وقال لي إنه سيكون مشغولا ليومين وأعطاني نقودا لشراء ملابس العيد لأطفالي".
كان ذلك بداية الكابوس بالنسبة لها. استيقظت صباح اليوم التالي وكان الجيران يتحدثون عن انقلاب فاشل. هرولت نحو بوابة سلاح المدرعات القريبة من منزلها برفقة زوجة ضابط آخر في المركز نفسه شارك مع زوجها في الانقلاب. عند البوابة، رأت رفاقا لزوجها كانوا يشيحون بوجوههم عنها. "كانوا يعرفون أن زوجينا سيقتلان".
في اليوم التالي، في 24 أبريل/نيسان 1990، أعلنت الإذاعة الرسمية (راديو أم درمان) إعدام 28 ضابطا قاموا بانقلاب فاشل. وأوردت الإذاعة أسماء الضباط وبينهم المقدم بشير أبو ديك.
وتقول كمبال "ولدت حركتنا بشكل عفوي، وكان عمادها النساء، وضمّت أيضا آباء وأبناء. كان السؤال عن المحكمة التي خضعوا لها وأين دفنوا. كنا سنويا في ذكرى إعدامهم نلتقي أحيانا في منزل إحدى العائلات ومرات داخل جامعة من الجامعات. في سنوات التضييق من جانب النظام، التقينا في القاهرة".
ثمن مرتفع
على مدى ٣٠ عاما، ظلت العائلات تسأل "أين القبور؟ في أي مكان دفن الرفات؟"، ودفع أفرادها ثمن بحثهم غاليا.
تقول كمبال "البعض تعرضوا للتوقيف، وآخرون أحيلوا إلى القضاء، أو طردوا من أشغالهم، أو من وظائف عامة. وبعضهم اضطر للهجرة، لكنهم لم يستسلموا".
وطردت عفاف ميرغني، شقيقة العقيد عصمت ميرغني أحد الضباط الذين أعدموا، من عملها في مصرف، بسبب مشاركتها في حركة الأُسر.
وقالت المحامية عواطف ميرغني، شقيقة الضابط ميرغني الأخرى، وهي تحاول إخفاء دموعها، "30 عاما ونحن نبحث عن قبورهم. كانت جريمة بشعة. لم تحصل محاكمة. لم يقدموا لمحكمة ولم يحقق معهم. أعدموا بعد 24 ساعة من إلقاء القبض عليهم، دُفنوا في قبر واحد بملابسهم، وهذا فيه انتهاك للكرامة الإنسانية".
خلال الاعتصام الذي أقامته الحركة الاحتجاجية ضد البشير ابتداء من نهاية 2018 أمام مقرّ قيادة الجيش في الخرطوم، نصبت أسر الضباط خيمة كتب عليها "أسر شهداء 28 رمضان"، تاريخ إعدامهم.
وأطاح الجيش بالبشير تحت ضغط هذا التحرك الاحتجاجي في أبريل/نيسان 2019. وتحكم السودان اليوم حكومة تضم ممثلين عن حركة الاحتجاج وعسكريين لفترة انتقالية يفترض أن تنتهي بانتخابات.
وتواصل حركة الأسر نضالها. وجاء في كتيّب أعدته أن الحركة "تسعى إلى إعادة الحكم الديمقراطي الذي انقلب عليه البشير وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين وتقديم الذين قوضوا النظام الدستوري للمحاكمة".